مقالات

برشلونة بحلوها ومرها

الثلاثاء: 29/11/2022 – *رشا سلامة

حكاية الفلسطيني مع المدن والأمكنة حكاية طويلة يصعب شرحها، وهي في معظم الأحوال عصية على الفهم. أظن أن فقدان المكان الحقيقي هو السبب وراء تعلق الفلسطيني بالأمكنة الأخرى التي يمر عليها.
يكفي مثلاً أن تغمض عينيك وتسمع ما يقوله الفلسطيني عن الكويت بعد مرور ما يزيد على ثلاثين عاماً من مغادرتها، حتى تعرف جيداً معنى متلازمة الأمكنة في حياة الفلسطيني.
لم أنج كفلسطينية من هذه المتلازمة. حتى اللحظة، تدور جل أحلامي أثناء النوم في بيت أهلي الذي عشت فيه طفلة ومراهقة في السعودية، كأنما غادرته في الأمس القريب. أحفظ كذلك تفاصيل المطارات والفنادق والمدن التي أحل عليها ببراعة شديدة، ولئن نسيت اسماً هنا أو تفصيلة ورقماً ما هناك، فإن ذاكرتي لا تسقط البتة صورة الأمكنة التي أحل فيها.
آخر الأمكنة بالنسبة لي كانت مدينة برشلونة، التي أنهيت فيها رحلتي مع الدراسات العليا. المكان كان كلمة مفتاحية طوال رحلة الدراسة التي امتدت على مدار ثلاثة أعوام.
الحي القوطي، كان تجربة فريدة من نوعها. كانت المرة الأولى التي أسكن فيها بيتاً تاريخياً يزيد عمره على ثلاثمائة عام! تجربة رسخت إيماني بضرورة ترميم بيت جدي في أبو ديس، يوما ما، والعودة للسكن فيه. رأيت في برشلونة كيف يقدس المكان التاريخي، وكيف يحافظ على تفاصيله بعناية فائقة، فيبقى تاريخياً لكن بمرافق داخلية عصرية تضاهي المساكن الحديثة.
وعادة ما يبتلى الفلسطيني بالأمكنة، فيبرحها وهو حزين ومجبر. أذكر أن مغادرتي برشلونة في آذار (مارس) 2020 كانت من أكثر اللحظات إيلاماً. لم أكد أعتاد تدبر أموري وحدي، وإدارة بيتي التاريخي وشؤون دراستي وعملي عن بعد، حتى حلت أزمة “كورونا”. كان الترقب سائداً لأيام في إسبانيا، قبل أن يصدر قرار حظر التجول وإغلاق منافذ البلاد.
الجيش يؤمن شوارع المدينة الخاوية، وطيور النورس تزحف من الشاطئ نحو الحي القوطي مصدرة أصواتاً غريبة أقرب للنواح، وأخالها من الجوع؛ إذ يلقم أهل المدينة الساحلية هذه الطيور على مدار ساعات اليوم، غير أنها وجدت ذاتها وحيدة فجأة بلا مقدمات. الأزقة المبلطة في الحي القوطي، التي تغسلها طواقم البلدة كل ليلة لتبقى نظيفة، امتلأت بمكافحي الوباء الذين كانوا يتسربلون بلباس أبيض كامل ليرشوا المعقمات على كل ما يقع تحت أيديهم في الأزقة من أبواب محال ومقاعد مقاه ومقابض درجات هوائية.
غادرت برشلونة العامرة بالفرح وقد تحولت آنذاك مأتماً لا حياة فيه؛ عقب تزايد عدد الإصابات والوفيات. ما تزال حتى اللحظة لا أعلم من أين انطلق صوت القرآن الكريم في أحد أزقة الحي القوطي، وهو الصوت الذي لا يسمع البتة في إسبانيا في الأحوال العادية. شعرت يومها أن من تجرأ وأذاع القرآن عالياً كان فاقداً الأمل في نجاته ونجاة المدينة برمتها. وما أزال أذكر جيداً صعوبة التنفس بكمامتين ثقيلتين غادرت إلى المطار بهما. هناك كان الرعب يسيطر على المسافرين. لا أحد يجرؤ على الاقتراب من أحد. حين طلبَت مني مسؤولة الأمن إخراج كمبيوتري المحمول فوجدت يدها تمتد إليه بعد أن لامست أمتعة غيري، قمت من دون وعي مني بسكب الكحول عليه وحمله سريعاً؛ مخافة العدوى. لم أدرك أني أتلفت الجهاز إلا حين وصلت عمان فجر اليوم التالي.
عدت إلى برشلونة بعد أشهر، وقد تسبب لي المكان مجددا بمزيد من الألم؛ إذ وجدت معظم المحال التي اعتدت على ارتيادها قد أغلِقت تماما. المطار العامر بالحركة كان خاوياً كما لو أنه مهجورا منذ أعوام. كان علي التأقلم هذه المرة مع مدينة خسرت مئات الأرواح وانتكست اقتصادياً وتغير طابعها السياحي الضاج بالفرح والحياة.. المزاج العام كله كان نزقاً حزيناً ومرتاباً. كان علي التأقلم مع مكان لا يشبه الذي عرفته في المرة الأولى.
عدت إلى بيتي في الحي القوطي. ضاعفت من إجراءات السلامة والصحة فيه. مزيد من التهوية والتعقيم والتنظيف، إلى جانب تدبر التفاصيل المعتادة من خدمات وتبضع وتأمين القفل. كان حرصي على سلامتي مضاعفاً؛ إذ التقاط العدوى في تلك المدينة البعيدة يعني على الأغلب أن تعاني وحدك من دون أن يملك أحد الوصول إليك. لا جيران يتعاملون مع بعضهم هناك، ولا معارف باستثناء قلة قليلة لا تزيد علاقتك بهم عن تبادل التحايا والابتسامات، ولا أحد يعرف عن أحد بالمعنى الحرفي للكلمة. بعد مرور هذه الأشهر، أدرك جيداً الآن كم استنزفتني تجربة “كورونا” في إسبانيا. كانت حملا ثقيلا زاد من التوتر والقلق الطبيعي لطالب الدكتوراه في العالم كله.
فيما أهم بوداع المكان الذي عايشته بحلوه ومره على مدار ثلاثة أعوام، أؤنسنه. ثمة حي وديع وآخر متجهم، وهناك مطعم يهش في وجه ضيوفه، فيما مقهى آخر ينفرهم ويذكرهم بأنهم غرباء بمجرد أن يقبلوا عليه. لن أنسى معمار المدينة المذهل، ولمسات أنتوني غاودي الذي حول المباني إلى تحفة تضج بالألوان. الأسواق، والمتاحف، والحدائق، والجامعة بمبانيها التاريخية والعصرية على السواء، وساحة الكاتدرائية ورقصات “لا ساردانا” فيها صباحات الأحد، البحر والطرقات المبلطة، مسارب المشاة التي جعلتني أمشي مسافات طويلة لساعات ممتدة من دون أن أشعر بآلام قدمي. المراكب التي أدمنت الإبحار فيها. حتى ملعب “كامب نو” الذي لم أجد في زيارته أدنى متعة، لن أنساه.
سأحمل برشلونة، باذخة التفاصيل، في قلبي. ما حييت.

*صحفية وأستاذة جامعية في الإعلام