منوعات

استعادة إرث مؤنس الرزاز بعد عشرين عاماً على الغياب

الثلاثاء: 8/2/2022 – استعاد مثقفون وأكاديميون إرث الروائي مؤنس الرزاز (1951 – 2002) مساء أمس الإثنين، في احتفالية نظّمتها “مؤسسة عبد الحميد شومان” برعاية وزيرة الثقافة هيفاء النجار وحضور رئيس الوزراء السابق الدكتور عمر الرزاز وعدد من الوزراء السابقين، مؤكدين على تجريبه في الكتابة السردية العربية، واستشرافه لمستقبل السياسة والثقافة.
وأشار الرزاز في كلمة ألقاها في الاحتفالية التي حملت عنوان “عشرون عاماً من الحضور رغم الغياب”، إلى كتاب قيد الإعداد سيتضمّن رسائل لمعة بسيسو إلى زوجها منيف الرزاز وولديها مؤنس وعمر، وكتاباتها وقصائدها التي ساعدتها على تحمّل المحنة التي تعرّضت إليها العائلة من نفي وإقامة جبرية قبل نحو أربعة عقود.
من جهتها، توقّفت وزيرة الثقافة عند الينابيع الأولى التي شكّلت بدايات الوعي لدى مؤنس وهو على مقاعد الدرس في مدرسة المطران، حيث خاض هناك مغامرة العقل الأولى، وشارك في نقاشات معمّقة وجدل واسع مع زملائه ومعلّميه عن الأحوال السياسية والفكرية في عالمنا العربي، وكان يؤمن أن التعلّم تعبٌ وعرق، وأن التعلّم امتداد حقيقي لعائلة الرزاز، وأن التعلم المبدع امتداد حقيقي للسياسي النشط.
ونبّهت النجار إلى أن ينابيعه الأخرى بدأت من البيت مع والده منيف السياسي المحنّك والكاتب الكبير في السياسة والفكر والثقافة والنضال، الذي كرّس حياته للدفاع عن قضايا الأمة العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وناضَل بعزم ضدّ الاستعمار الغربي، ومع والدته لمعة التي ساهمت في تشكيل هوية ابنها، وكانت من أوائل الأردنيات الحائزات على شهادة جامعية، وكانت مناضلة ساندت زوجها في ترحاله، وكتبت المقالات التي تعبّر عن فكرها ووجهة نظرها.
وأكدت أن مؤنس كان من أبرز كتاب الرواية الحداثية العربية وما يميّز تجربته الروائية هو التجريب والتجديد دوماً، وتنوّع مصادره الأدبية، ولا سيما التراثية منها، وبوصلته كانت تتجه دوماً نحو تشريح الواقع العربي واستبطان أزمات الإنسان العربي والكشف عن طموحاته وآماله والدفاع عن حقه في أن يكون كما ينبغي له يكون.
وبيّنت النجار أن منصّة وزارة الثقافة الإلكترونية تتيح للقرّاء الاطلاع على أعمال مؤنس الروائية الثلاثة عشر.
من جهتها، أوضحت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة عبد الحميد شومان، فالنتينيا قسيسية أن استذكار مؤنس يأتي من باب الامتنان لرموزنا الذي مثّل الراحل واحدا من أهمّها في عالم الأدب والكتاب، كما أن هناك أكثر من جيل لم يعايش مؤنس، ومن الواجب تقريب صورته وإبداعه، لكي يتعرف إليه عن قرب، لذلك اشتملت الاحتفالية على عرض رسومات وكتب مؤنس في مكتبة شومان، وعقد قراءات قصصية لأعماله موجّهة للأطفال واليافعين في مكتبة درب المعرفة.
بعد ذلك، عُرض فيلم قصير أضاء جانباً من مضامين تجربة مؤنس الروائية، واقتباسات مسجّلة له حول أهمية الحرية والديمقراطية بالنسبة للكاتب، كما تحدّث فيها عن الفن التشكيلي كوسيلة من وسائل الإبداع.
بدوره، قدّم الروائي هاشم غرايبة شهادة أشار فيها إلى أن مؤنس الرزاز كان يحبّ الحياة ويكره ألاعيب الواقع، ولا يهاب الموت ولا يتهيّب الحديث عنه، وكان يقول إن الموت مجرّد استقالة أو تقاعد من الحياة. وبين أن مؤنس واظب على تضميد جراحه الشخصية والعائلية وخسارات الأمة العربية بالعمل والأصدقاء والسخرية، تلك السخرية المركبة التي تكشف الزيف والتخلف وتفكك الواقع وتكشف مواطن الخراب، مضيفاً “كنا نحن المقريون منه نعرف كآبته العريقة، ونرصد تحوّلها إلى فن راقٍ، ونعرف أيضاً ضحكته العالية وبديهته الحاضرة وحبّه للحياة”.
أما أستاذة النقد الحديث الدكتورة رزان إبراهيم، فشدّدت في ورقتها “مؤنس الرزاز الغائب الحاضر” على أنه لا يمكن فصل الشكل الروائي الذي قدّمه الراحل عن مؤنس نفسه، ولا يمكن فصل الشكل عن موضوع الروايات التي كتبها، حيث كانت تجربة حياته ملازمة لما كتب، ومن يقرأه يحسّ أنه يهدم عمود القصّ التقليدي بمعاييره المعروفة، وتكون في صميم وعي ما بعد حداثي نجم عنه عالم روائي حافل بجماليات التفكيك، مستعرضة أبرز الملامح كخروجه عن الحبكة التقليدية، وشخصيات رواياته تتحرّك بحرية وتلقائية بعضها تشبهه إلى حد كبير حيث يسيطر عليها حسّ الاغتراب، وتعيش حالة من التضاد، كما خضعت حركة الزمن لديه لحركة الذهن، وهناك تمردً على منطق التتابع الزمني، ويقدّم الأحداث مشكوكاً فيها.
وفي ورقته “الروائي مفكراً”، أشار الناقد والمترجم فخري صالح، إلى أن مؤنس الرزاز كان أحد الروائيين العرب الذين سعوا إلى أن لا يبقوا أوفياء للشكل الروائي المستعار من الرواية الأوروبية من خلال التواصل مع التراث مثلما فعل إميل حبيبي وجمال الغيطاني وآخرون، حيث اهتمّ مؤنس في جزء أساسي من عمله بتأصيل الكتابة الروائية العربية، كما ظهر في روايته “متاهة الأعراب في ناطحات السراب” وفي الوقت نفسه استفاد من مدارس متعددة كمدارس الحداثة في الرواية العالمية. ثم عُرض فيلم من إعداد مكتبة الحسين بن طلال في جامعة اليرموك بعنوان “هكذا قرأت مؤنس الرزاز” من تصوير ومونتاج سوار المومني وآلاء الحسين، وضمّ شهادات قدّمها كتّاب شباب وقراء هم عثمان مشاروة ورؤى الحوامدة وهادية السرحان وراشد الواكد وروند كفارنة واقتبسوا بعضاً من مقولاته.
من جهته، لفت الرزاز إلى أنه رغم كلّ ما سمعناه عن مؤنس الذي تلقى الضربة تلو الضربة إلا أنه لم يكن يائساً، حيث لم يتوقّف ولو للحظة عن الكتابة والرسم، ومعظم رواياته كانت في سنواته الأخيرة، وكتب ما كتب لا ليسلّي القارئ، ولم يكتب الروايات التقليدية التي تتضمّن حبكة ونهاية سعيدة، إنما كتب ليصدم القارئ بواقع واقعي وخرافي في آن واحد، لا ليقول إن هذا الواقع محتوم بل ليؤسس لإدراكه ونقده وتجاوزه نحو وعي تنويري إنساني ديمقراطي، ونحو دولة العدل حيث القوانين والمؤسسات والمواطن.
وأضاف “مؤنس الأخ سرّ وجودي أنا في هذه الحياة، فهو الذي طالب والديّ بإلحاح أن ينجبا أخاً ليكون عزوة وسنداً، هو الذي أسماني عمر، فارق العمر بيينا كان كبيراً؛ عشر سنوات، ولا أذكر يوماً أننا تشاكسنا كما الإخوة، ولكن كنا حنونين على بعضنا حنوّ أبناء أسرة مغايرة للطبيعة مهددة بالانقراض، منيف الأب كان هادراً بوقعه، بصوته، بحبه، بإقباله، لمعة الأم كانت حجر الزاوية تسند منيف في معاركه، تضمّد جراح مؤنس وتحصنني”.
وتحدّث الرزاز عن قراءته لكتاب مؤنس الأول “مدّ العالم الصغير في وجه العالم الكبير” وهو في الحادية عشرة من عمره، وهاله أن يقرأ فجيعة الأسرة في سطور، مؤكداً أن حبر مؤنس سال بديلاً عن دمه، إدانة لقمع الإنسان وقرباناً لغدً أفضل”. وأوضح أنه رغم شكواهما، هو ومؤنس، من الطريق الصعب الذي اختاره والداهما، إلا أنهما إذا ما خيّرا بين حياة رتيبة يذهب فيها الوالد إلى عيادته صباحاً ويعود إلى البيت مساء وبين الحياة المتلاطمة التي خاضاها لاختارا الأخيرة من دون تردد، متابعاً أن “هذه المصالحة مع إرثنا ومع أنفسنا كانت مفصلية لكلينا، وفتحت الباب لفيض من الرسائل بينه وبين مؤنس في تسيعينات القرن الماضي سعيا خلالها لاكتشاف أنفسهما من خلال الكتابة”، حيث قرأ مقاطع عديدة منها.
وختمت أستاذة اللغة العربية وآدايها الدكتورة أماني سليمان التي قدّمت الاحتفالية بقولها “نؤكد أن الغياب في حالة مؤنس الرزاز حضور من نوع خاص، حضور في الوجدان وفي القلوب المحبة، وفي الكلمة الصادقة المختلفة منزاحة عن المعيار والنمطية، وفي الرؤى الجامحة نحو حياة أكثر نقاء وحرية وصدقاً ووفاء”.
–(بترا)

09:33:19