
بقلم: عرين القاضي
تشرفت في الأيام القليلة الماضية بتلبية دعوة جلالة الملكة رانيا مع مجموعة من سيدات المفرق والبادية الأردنية، حيث تم اختيار أم الجمال هذا المكان التاريخي المهم، مما أثار حماسي للكتابة أكثر بسبب الإلهام الذي استشعرته من هذه الزيارة. اللقاءات الملكية عادة ما تحمل رسائل عميقة ومهمة، وقد أكدت جلالة الملكة ذلك عندما تحدثت عن أهمية اختيار أم الجمال كمعلم تاريخي مهم لإعادة تسليط الضوء على جزء أساسي من تاريخ الأردن وآثاره.
وصادف أنني أيضًا كنت في الأيام الماضية ضيفة على قناة تلفزيونية أردنية للحديث عن الهوية الأردنية المتكاملة التي تشكل بصمتنا العالمية، وتوثق حياتنا اليومية وطريقة تعاملنا عبر العصور مع الأحداث الاجتماعية والوطنية. حفظ هذا التراث يُعد واجبًا لضمان صونه للأجيال القادمة، ومن مبدأ أؤمن به: من يفهم تاريخه وتراثه، يفهم مستقبله.
أحد مخاوفي الكبرى هو فقدان ذاكرة الوطن الجمعية بسبب التطور الديموغرافي وفقدان جيل كبير من الركائز التاريخية لمجتمعنا، الذين حفظوا القصص المهمة وسلّموها للأجيال القادمة ، هذا الجيل الذي يحمل في ذاكرته قصصًا وتاريخًا مهمًا يتناقل عبر الأجيال. هذا النقل يتم إما بالطريقة السردية الشفوية أو من خلال تحويل هذه الذكريات إلى مواد حساسة بطبيعتها مثل التسجيلات الصوتية، الأفلام، الصور، والأشرطة، والتي تتأثر بعوامل الزمن والرطوبة والتقنيات القديمة.
لقد ذكرت أن الحضارات القديمة كانت تحفر هويتها وتاريخها على الحجارة والجدران الصلبة، والأردن أدرك هذه الخطورة. ولهذا انضمت مؤسسات وطنية إلى الجهود الدولية التي تقودها اليونسكو لحماية التراث السمعي والبصري. على سبيل المثال، تحتفل المملكة سنويًا في 27 تشرين الأول بـ”اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري”، تأكيدًا على أهمية الوعي العام بأهمية الحفظ والتوثيق وضمان بقاء ذاكرتنا الثقافية للأجيال القادمة.
اليوم، يحمل هذه الرسالة المهمة سمو ولي العهد الأردني الأمير الحسين بن عبدالله، حيث أكد في آخر ظهور له أهمية توثيق السردية التاريخية لهوية الأردن. تبدأ المساهمة من الوعي بأهمية ما نملكه؛ فالصورة التي التقطها أحد أجدادنا قبل خمسين عامًا ليست مجرد ذكرى عائلية، بل وثيقة تاريخية تعكس نمط الحياة واللباس والعلاقات الاجتماعية في تلك المرحلة.
يمكن حفظ هذه المواد وتنظيمها رقميًا، أو مشاركتها مع المؤسسات الوطنية مثل مكتبة عبد الحميد شومان، أو دائرة المكتبة الوطنية، أو من خلال مبادرات شبابية بالتنسيق مع الوزارات المعنية بجمع وحماية الذاكرة الشعبية.
يمكن أيضًا إنتاج وثائقيات ومسلسلات وأفلام قصيرة تستخدم المقاطع الأصلية لتروي قصص الأماكن والشخصيات التي شكّلت تاريخ الأردن الاجتماعي والثقافي. كما يمكن تعليم الأغاني الشعبية، مثل أغاني الحصاد والأعراس والوداع، كجزء من التراث اللامادي الأردني المدرج ضمن اتفاقية اليونسكو، فهي تحافظ على اللهجات المحلية والموسيقى البدوية والريفية وأساليب الأداء التي تميّز كل منطقة.
أكبر تحدٍ في نقل الروايات القديمة من جيلٍ إلى جيل هو فقدان التواصل الشفهي المباشر، الذي كان يشكّل العمود الفقري للذاكرة الشعبية الأردنية. في الماضي، كانت الحكايات تُروى في المجالس والسهَر والبيوت، خاصة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، زمن تأسيس إمارة شرق الأردن وبدايات الدولة الأردنية الحديثة، فترة مليئة بالتحديات وبروح البناء والوحدة والهوية الوطنية.
اليوم، أنتم تطرزون ذاكرة الوطن، فكونوا أبطالًا في حبكم لهذا الوطن والدفاع عن هويته. لو لم تكن هذه الأرض طيبة، لما دفعت الشعوب الغالي والنفيس لتزرع كينونتها فيها.
في كل بيت أردني ذاكرة وطنية، والآثار تعكس هذا التاريخ: فـ”المدرقة الأردنية” ظهرت على منحوتات الإلهة عشتار المؤابية قبل آلاف السنين، والشماغ الأردني ظهر في التماثيل النبطية أيضًا، دليل على عمق هويتنا وتواصلها عبر العصور.
ولا بد من التأكيد على أهمية الفخر بكل ما هو أردني جميل، وهي عبارة أطلقتها في مناسبة زواج سمو ولي العهد، عندما كان الحدث يحمل العديد من الرسائل الأردنية الشعبية، حفاظًا على التراث الثقافي الشعبي من خلال اختيار الأهزوجات، الملابس التراثية، وفقرات أردنية أصيلة تُجسد الزواج الأردني الحقيقي.
