
د. أنس عضيبات
في العصر الحديث، أصبحت وسائل الإعلام أحد أهم العوامل المؤثرة في تشكيل صورة الأبوة والأمومة لدى الأفراد والمجتمعات، فالمنصات الرقمية والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي تقدم باستمرار نماذج للأبوة والأمومة، بعضها واقعي وملهم، وبعضها الآخر مثالي ومبالغ فيه، وهذا التقدم المستمر يؤثر على توقعات الآباء والأمهات، ويزيد من الضغط النفسي لديهم لتقليد ما يرونه من سلوكيات أو أساليب تربية، ومع تزايد الوصول إلى هذه الوسائل، باتت صورة الأبوة والأمومة مرتبطة ليس فقط بالقيم التقليدية، بل أيضاً بالمعايير الحديثة التي تروج لها وسائل الإعلام.
حيث إن وسائل الإعلام تلعب دوراً مزدوجاً في نقل المعرفة حول التربية، وذلك من خلال توفر برامج تعليمية ومقالات توجيهية حول طرق التعامل مع الأطفال ومراحل نموهم المختلفة ومن جهة، تساعد هذه الموارد الأهل على اكتساب مهارات جديدة وفهم أعمق لاحتياجات أبنائهم ومن جهة أخرى، قد تؤدي المقارنات المستمرة مع نماذج الأبوة المثالية على الشاشات إلى شعور بالقصور أو الفشل لذلك، تصبح القدرة على التمييز بين النصائح العملية والتمثيلات الإعلامية ضرورية لتبني صورة صحية ومتوازنة للأبوة والأمومة.
وفي ظل الانتشار الكبير للمنصات الرقمية، أصبح تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الآباء والأمهات أكثر وضوحاً فالآباء اليوم يتعرضون لمحتوى متنوع من مدونات تربوية، فيديوهات تعليمية، وحتى منشورات للأمهات والآباء المشهورين، وهذا الكم الهائل من المعلومات يخلق نوعاً من الضغط الاجتماعي غير المعلن، حيث يسعى كل والد لمواكبة ما يراه “مثالياً” لكن هذا التأثير ليس بالضرورة سلبيًّا، إذ يمكن للأهل اختيار المحتوى الذي يعزز مهاراتهم ويحفزهم على تحسين تفاعلهم مع أبنائهم.
ومن جانب آخر، تعمل الإعلانات التجارية على ترسيخ صورة محددة للأبوة والأمومة، غالباً تكون مرتبطة بالمنتجات الاستهلاكية، فالإعلانات تعرض غالباً الآباء والأمهات في أدوار معينة، مثل الأم المثالية التي تقدم الطعام الصحي أو الأب الحريص على تعليم طفله التكنولوجيا، وهذا التقديم يمكن أن يخلق توقعات غير واقعية ويؤدي إلى شعور بالضغط النفسي لدى الأهل، ما قد ينعكس سلباً على العلاقة مع أطفالهم ومع ذلك، فإن الوعي النقدي يمكن أن يقلل من تأثير هذه الصور المبالغ فيها.
كما تسهم وسائل الإعلام أيضاً في إعادة تعريف الأدوار التقليدية للأبوة والأمومة، إذ تعرض نماذج أكثر تنوعاً تشمل مشاركة الأباء في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال بشكل متساوٍ مع الأمهات، وهذه النماذج تعزز المساواة وتكسر الصور النمطية التي كانت سائدة لعقود، كما أن النقاشات الإعلامية حول قضايا مثل الأبوة الحديثة، الأبوة العاطفية، والأمومة العملية، تمنح المجتمع فرصة لإعادة التفكير في القيم التربوية التقليدية.
ختاماً، يمكن القول إن وسائل الإعلام باتت عنصراً محورياً في تشكيل صورة الأبوة والأمومة في العصر الحديث، فهي قوة تعليمية وإعلامية في الوقت نفسه، والتحدي يكمن في قدرة الأهل على استيعاب هذه التأثيرات بشكل واعٍ واختيار ما يفيدهم فعلياً في حياتهم الأسرية، ومن خلال الدمج بين الخبرات الشخصية والنصائح الإعلامية الموثوقة، يمكن للأب والأم بناء نموذج تربوي متوازن يلبي احتياجات أطفالهم ويعزز التنمية العاطفية والاجتماعية لديهم، حيث إن هذه العملية تتطلب وعيًا نقديًا وإدراكاً لتأثير الإعلام على التوقعات والأدوار الأسرية.
