
بقلم: خبير المناهج واستراتيجيات التدريس/ الدكتور انس عضيبات
6-اب:
في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا بشكل غير مسبوق، لم يعد من الممكن الحديث عن الأمن دون الإشارة إلى التحول الرقمي الذي طال مختلف القطاعات، ومنها العمل الشرطي، فقد فرضت الجرائم الإلكترونية، وتطور أساليب الجريمة، واقعًا جديدًا يتطلب أدوات مختلفة وأفكارًا غير تقليدية وهنا يبرز مفهوم “الشرطي الرقمي” كأحد المظاهر الحديثة للتكيف مع هذه التحديات، ولكن يبقى السؤال مطروحًا: هل نحن أمام ضرورة أمنية حقيقية، أم أن المسألة لا تعدو كونها ترفًا تدريبيًا لا يتناسب مع أولوياتنا الحالية؟
التحول الرقمي في العمل الأمني لم يعد خيارًا، بل أصبح حاجة ملحّة تفرضها طبيعة الجريمة الحديثة، فقد ولّت الأيام التي كان فيها التهديد الأمني ماديًا فقط، وأصبحنا اليوم نواجه مجرمين خلف الشاشات، يستخدمون الحواسيب بدلاً من الأسلحة، ويخترقون أنظمة الدولة، ويبتزون الأفراد، ويديرون شبكات معقّدة من الجرائم العابرة للحدود، ومن هنا، نشأت الحاجة إلى “الشرطي الرقمي” الذي يجمع بين الكفاءة الأمنية والخبرة التكنولوجية، ليصبح أداة فعالة في الكشف المبكر، والتحليل، والاستجابة السريعة.
ومع ذلك، لا يزال هناك من يرى أن هذا التحول نحو الرقمنة الأمنية هو نوع من الترف غير الضروري، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تعاني منها بعض الدول، ويعتقد هؤلاء أن توجيه الموارد نحو التدريب التكنولوجي وتحديث الأجهزة قد يكون على حساب احتياجات أكثر إلحاحًا، ولكن هذا الرأي يغفل حقيقة أساسية، وهي أن الأمن في العصر الحديث لا يُبنى بالوسائل التقليدية فقط، بل يتطلب أيضًا بناء بنية تحتية رقمية وكوادر بشرية مؤهلة لمواجهة الجريمة الحديثة بلغتها وأدواتها.
والتحدي الحقيقي لا يكمن في اقتناء التكنولوجيا، بل في تأهيل الإنسان، فالشرطي الرقمي ليس جهازًا ذكيًا، بل فردًا قادرًا على توظيف هذه الأدوات بفعالية، ومن هنا، تبرز أهمية التدريب المتخصص في مجالات مثل الأمن السيبراني، وتحليل البيانات، والمراقبة الذكية، وإدارة الأزمات الرقمية، فبناء القدرات البشرية الرقمية لا يقل أهمية عن امتلاك الأسلحة أو الدوريات، بل هو سلاح استراتيجي جديد في معركة غير تقليدية.
إن تجربة العديد من الدول التي نجحت في دمج التكنولوجيا بالعمل الأمني تُثبت أن الشرطي الرقمي أصبح حجر الأساس في حماية المجتمعات، فالدول التي استثمرت في هذا المجال لم تواكب فقط التطورات، بل سبقت المجرمين بخطوة، واستطاعت كشف الكثير من التهديدات قبل وقوعها وبالتالي، فإن بناء هذا النموذج يجب أن يكون ضمن رؤية وطنية شاملة للأمن الحديث، وليس مجرد مبادرة تقنية محدودة.
في النهاية، يتضح أن “الشرطي الرقمي” ليس ترفًا ولا رفاهية، بل ضرورة يفرضها واقع معقد وجريمة لا تعترف بالحدود وبدلاً من التساؤل عن جدوى هذا التحول، ربما يجدر بنا أن نتساءل: هل يمكننا الاستمرار في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بأساليب تعود للقرن الماضي؟ الإجابة واضحة… الأمن الحديث يبدأ من الشرطي الرقمي.
